منذ مدّة أدخل أحدهم في أذهان الإدارات الأميركية أن الآخرين لا يفهمون إلاّ لغة القوة. وأن علاقات الدول يحكمها المبدأ الدارويني «البقاء للأصلح»، بمعنى الأقوى. وأن الحضارات تؤطرها الصراعات.
فإذا أرادت أميركا أن تحقق مصالحها وتفرض احترامها، عليها أن تمارس القوة، وتؤجج الأزمات.
المقصود بـ"الآخرين» الشعوب والدول الواقعة خارج «الغرب».
مثل هذا التفكير قديم قدم الإنسانية، ممثلاً بمقولة «القوة هي الحق»، لكنه بدأ يظهر في أميركا في ثمانينيات القرن الماضي، مع مجيء رونالد ريغن للحكم وظهور تيار «المحافظين الجدد».
عدة إدارات أميركية تبنّت الطرح منذ ذلك الوقت؛ لكن ليس كلّها.
الكثير يمكن أن يقال هنا؛ لكننا نختصر ونقول:
أولاً، يتعارض الطرح تعارضاً مباشراً مع التطور الإيجابي في الفكر الإنساني. فمنذ فجر التاريخ خاضت القبائل والشعوب والدول حروباً وصراعات مدمّرة لا حصر لها لتتوصل البشرية إلى أن السبيل الأنجح والأنجع في التعامل هو الحوار والتفاهم والتفاوض، ثم احترام المصالح المشتركة والتعاون.
لا بل إننا تاريخياً الآن في مرحلة الانفتاح والتعددية الثقافية وما بعد الاستعمار.
تبني نهج القوة خطوة رجعية تقفز عن مكتسبات الفكر الإنساني ودروس التاريخ وتعيدنا إلى عصور الظلام.
ثانياً، يصطدم الطرح مع المبادئ التي أسست عليها أميركا ذاتها، والمتجسدة في «إعلان الاستقلال» عام 1776 والذي نص صراحة على أنّ حق كل أمة في «الاستقلال» و"المساواة» مع الأمم الأخرى حقٌ «مَنَحهُ الخالق» وأن «الناس كلّهم خلقوا متساوين» وأن «الخالق قد وهبهم حقوقاً لا تُنتزع، منها حقهم في الحياة والحرّية والسعي للسعادة».
فَرْضُ السطوة على الآخرين مخالف لما ورد في إعلان الاستقلال، والذي هو جوهر الدستور الأميركي.
وليس أدلّ على ذلك من أن العديد من الأميركيين الشّيب والشباب المتمسكين بالثوابت يرفضون التّغول في التعامل مع الآخرين، وعلى رأس هؤلاء مفكرون عظماء، مثل نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد وجفري ساكس.
ثالثاً، يقفز الطرح عن حقيقة أن شعوب الأرض تحترم وتُقدر وتُعلي من شأن اللطف واللين والودّ والحوار، وترفض الخشونة والغطرسة والسطوة. الناس أينما كانوا لهم عزّة نفس وكبرياء؛ ولا يتقبلون، ناهيك عن أنهم «يحترمون»، من يمارس الفوقية والهيمنة.
الذي روّج للإدارات الأميركية بأن الآخرين «يحترمون» من يتعامل معهم بالقوة مخطئ، لا بل شاذ وأحمق.
رابعاً، ولعلّ هذا هو الأهم، يفشل الطرح في تحقيق الهدف المرجو. لم تتخذ إدارة أمريكية خطوة دولية بناء على هذا التفكير، في منطقتنا أو غيرها، إلا وفشلت في تحقيق أهدافها. لعلها كسبت معركة هنا وهناك، لكنها خسرت الحرب. لا بل إن النتيجة كانت تعاظم قوة وأهمية القوى التي حاربتها؛ إضافة إلى خسائر في المُعتدي والمُعتدى عليهم. لا رابح هنا.
الإدارة الأميركية الحالية، والتي لم يمضِ شهر على تسلمها مهامها أطلقت منذ فوز رئيسها تصريحات متباينة: بعضها يؤكد على إنهاء الصراعات والحروب، وبعضها ينذر بصراعات وحروب جديدة.
وقبل أن تتخذ أية خطوة رعناء في الاتجاه الثاني مهم أن تسمع من شعوب الأرض وأممها وساستها ما نقوله هنا.
نهج القوة خاطئ وفاشل، ومرفوض أميركياً ودولياً؛ وضرره يصيب الجميع. والدور الأنسب لأميركا هو المُؤسَّس على التعاون والشراكة واحترام الآخرين؛ وهو ما مارسته إدارات أميركية سابقة.